شعر المهاجرون والأنصار معا بحق أم سلمة عليهم ، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة حتى تقدم منها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبها لنفسه فأبت أن تستجيب لطلبه ، ثم ثقدم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فردته كما ردت صاحبه .
ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن في خلالا ثلاثا : فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني الله به , وأنا امرأة قد دخلت في السن (أي جاوزت سن الزواج) ، وانا امرأة ذات عيال ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل ان يذهبها عنك ، واما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك .. وأما ما ذكرت من العيال ، فإنما عيالك عيالي !!
أم سلمة ، وما أدراك ما أم سلمة؟
أما أبوها فسيد من سادات مخزوم المرقومين ، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، وأما زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد العشرة السابقين إلى الإسلام.
أسلمت هند (أم سلمة) مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضا ، وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت ، وجعلت تصب عليهما من نكالها ، فلم يضعفا ولم يهنا ..
ولما اشتد عليهما الأذى وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة كانا في طليعة المهاجرين ، وعلى الرغم مما لقيته أم سلمة وصحبها من حماية النجاشي نضر الله في الجنة وجهه ، فقد كان الشوق إلى مكة مهبط الوحي ، والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد أشواقها وزوجها لهبا.
ثم تتباعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم ، وأن إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم قد شد من أزرهم ، وكف شيئا من أذى قريش عنهم ، فعزم فريق منهم على العودة إلى مكة يحدوهم الشوق ويدعوهم الحنين ، فكانت أم سلمة وزوجها في طليعة العائدين ، لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغا فيه ، ولقد تفنن المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم ، فأذاقوهم من بأسهم ما لاعهد لهم من قبل.
عند ذلك أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما وتخلصا من أذى قريش ، لكن هجرة أم سلمة وزوجها لم تكن سهلة ميسرة لهما ، وإنما كانت شاقة مرة خلفت وراءها مأساة تهون دونها كل مأساة.
تقول أم سلمة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ، ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء ، وقبل أن نفصل عن مكة رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا ، وقالوا لأبي سلمة :
إن كنت قد غلبتنا على نفسك ، فما بال امرأتك هذه ؟ وهي بنتنا ، فعلام نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد؟
ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعا ، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبدالأسد يأخذونني أنا وطفلي ، حتى غضبوا أشد الغضب ، وقالوا : لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعا .. فهو ابننا ونحن أولى به ، ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده وأخذوه، وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة ، فزوجي اتجه إلى المدينة فرارا بدينه وبنفسه وولدي اختطفه بنو عبد الأسد من بين يدي ، أما أنا فقد استولى علي قومي بنو مخزوم ، وجعلوني عندهم ...
ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة ..
ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح ، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي ، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل فيها بيني وبين ولدي وزوجي ، وأظل أبكي حتي يخيم علي الليل ..
وبقيت على ذلك سنة أو قريبا من سنة إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرق لحالي ورحمني وقال لبني قومي : ألا تطلقون هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها . وما زال بهم يستلين قلوبهم ويستدر عطفهم حتى قالوا لي : إلحقي بزوجك إن شئت ..
ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترك ولدي فلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد في شأني واستعطفوهم علي فردوا لي ولدي سلمة.
لم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه ، فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق .. لذلك بادرت فأعددت بعيري ، ووضعت ولدي في حجري ، وخرجت متوجهة نحو المدينة أريد زوجي ، وما معي أحد من خلق الله ..
وما أن بلغت (التنعيم) حتى لقيت عثمان بن طلحة وكان حاجب بيت الله في الجاهلية ، أسلم مع خالد بن الوليد وشهد فتح مكة فدفع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة وكان يوم رافق أم سلمة مشركاً فقال : إلى أين يا بنت زاد الركب (يقصد أبوها).
فقلت : أريد زوجي في المدينة .
قال: أوما معك أحد؟
قلت : لا والله إلا الله ثم بني هذا.
قال : والله لا أتركك أبدا حتى تبلغي المدينة ، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي ...
فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أكرم منه ولا أشرف : كان إذا بلغ منزلا من المنازل ينيخ بعيري ، ثم يستاخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض دنا إليه وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها ..
ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلها . فإن حان الرواح قام إلى بعيري فأعده ، وقدمه لي ، ثم يستأخر عني ويقول : اركبي ، فإذا ركبت ن واستويت على البعير ، أتى فأخذ بخطامه وقاده. وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلفنا المدينة ، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو ابن عوف قال : زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق ، وقرت عين أم سلمة بزوجها ، وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده ثم طفقت الأحداث تمضي سراعا كلمح البصر ، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين ، وقد انتصروا نصرا مؤزرا ..
وهذه أحد ، يخوض غمارها بعد بدر ويبلى فيها أحسن البلاء وأكرمه ، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحا بليغا ، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندمل ، لكن الجرح كان قد رم على فساد فما لبث أن انتكأ ولزم أبو سلمة الفراش ..
وفيما كان ابو سلمة يعالج من جرحه قال لزوجه :
يا أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصيب أحدا مصيبة ، فيسترجع عند ذلك ويقول : اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ، اللهم أخلفني خيرا منها إلا أعطاه الله عز وجل خيرا منها ..
ظل أبو سلمة على فراش مرضه أياما ، وفي ذات صباح جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده ، فلم يكد ينتهي من زياره ويجاوز باب داره ، حتى فارق ابو سلمة الحياة ، فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفتين عيني صاحبه ، ورفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المقربين .. واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يارب العالمين ، وافسح له في قبره ونور له قبره .
أما أم سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :
اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه ... لكنها لم تطب نفسها أن تقول : اللهم أخلفني فيها خيرا منها ، لأنها كانت تتساءل ومن عساه أن يكون خيرا من أبي سلمة ؟ لكنها ما لبثت أن أتمت الدعاء ..
حزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب أحد من قبل ، وأطلقوا عليها اسم (أيم العرب) أي المرأة التي فقدت زوجها ، إذ لم يكن لها في المدينة أحد من ذويها غير صبية صغار كزغب القطا.
شعر المهاجرون والأنصار معا بحق أم سلمة عليهم ، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة حتى تقدم منها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبها لنفسه فأبت أن تستجيب لطلبه ، ثم ثقدم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فردته كما ردت صاحبه .
ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن في خلالا ثلاثا : فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني الله به , وأنا امرأة قد دخلت في السن (أي جاوزت سن الزواج) ، وانا امرأة ذات عيال ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل ان يذهبها عنك ، واما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك .. وأما ما ذكرت من العيال ، فإنما عيالك عيالي !!
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة فاستجاب الله دعاءها ، وأخلفها خيرا من أبي سلمة .. ومنذ ذلك اليوم لم تبق هند المخزومية أما لسلمة وحده ، وإنما غدت أما لجميع المؤمنين .. نضر الله وجه أم سلمة في الجنة ورضي عنها وأرضاها.
ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن في خلالا ثلاثا : فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني الله به , وأنا امرأة قد دخلت في السن (أي جاوزت سن الزواج) ، وانا امرأة ذات عيال ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل ان يذهبها عنك ، واما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك .. وأما ما ذكرت من العيال ، فإنما عيالك عيالي !!
أم سلمة ، وما أدراك ما أم سلمة؟
أما أبوها فسيد من سادات مخزوم المرقومين ، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، وأما زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد العشرة السابقين إلى الإسلام.
أسلمت هند (أم سلمة) مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضا ، وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت ، وجعلت تصب عليهما من نكالها ، فلم يضعفا ولم يهنا ..
ولما اشتد عليهما الأذى وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة كانا في طليعة المهاجرين ، وعلى الرغم مما لقيته أم سلمة وصحبها من حماية النجاشي نضر الله في الجنة وجهه ، فقد كان الشوق إلى مكة مهبط الوحي ، والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد أشواقها وزوجها لهبا.
ثم تتباعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم ، وأن إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم قد شد من أزرهم ، وكف شيئا من أذى قريش عنهم ، فعزم فريق منهم على العودة إلى مكة يحدوهم الشوق ويدعوهم الحنين ، فكانت أم سلمة وزوجها في طليعة العائدين ، لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغا فيه ، ولقد تفنن المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم ، فأذاقوهم من بأسهم ما لاعهد لهم من قبل.
عند ذلك أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما وتخلصا من أذى قريش ، لكن هجرة أم سلمة وزوجها لم تكن سهلة ميسرة لهما ، وإنما كانت شاقة مرة خلفت وراءها مأساة تهون دونها كل مأساة.
تقول أم سلمة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ، ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء ، وقبل أن نفصل عن مكة رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا ، وقالوا لأبي سلمة :
إن كنت قد غلبتنا على نفسك ، فما بال امرأتك هذه ؟ وهي بنتنا ، فعلام نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد؟
ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعا ، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبدالأسد يأخذونني أنا وطفلي ، حتى غضبوا أشد الغضب ، وقالوا : لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعا .. فهو ابننا ونحن أولى به ، ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده وأخذوه، وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة ، فزوجي اتجه إلى المدينة فرارا بدينه وبنفسه وولدي اختطفه بنو عبد الأسد من بين يدي ، أما أنا فقد استولى علي قومي بنو مخزوم ، وجعلوني عندهم ...
ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة ..
ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح ، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي ، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل فيها بيني وبين ولدي وزوجي ، وأظل أبكي حتي يخيم علي الليل ..
وبقيت على ذلك سنة أو قريبا من سنة إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرق لحالي ورحمني وقال لبني قومي : ألا تطلقون هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها . وما زال بهم يستلين قلوبهم ويستدر عطفهم حتى قالوا لي : إلحقي بزوجك إن شئت ..
ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترك ولدي فلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد في شأني واستعطفوهم علي فردوا لي ولدي سلمة.
لم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه ، فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق .. لذلك بادرت فأعددت بعيري ، ووضعت ولدي في حجري ، وخرجت متوجهة نحو المدينة أريد زوجي ، وما معي أحد من خلق الله ..
وما أن بلغت (التنعيم) حتى لقيت عثمان بن طلحة وكان حاجب بيت الله في الجاهلية ، أسلم مع خالد بن الوليد وشهد فتح مكة فدفع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة وكان يوم رافق أم سلمة مشركاً فقال : إلى أين يا بنت زاد الركب (يقصد أبوها).
فقلت : أريد زوجي في المدينة .
قال: أوما معك أحد؟
قلت : لا والله إلا الله ثم بني هذا.
قال : والله لا أتركك أبدا حتى تبلغي المدينة ، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي ...
فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أكرم منه ولا أشرف : كان إذا بلغ منزلا من المنازل ينيخ بعيري ، ثم يستاخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض دنا إليه وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها ..
ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلها . فإن حان الرواح قام إلى بعيري فأعده ، وقدمه لي ، ثم يستأخر عني ويقول : اركبي ، فإذا ركبت ن واستويت على البعير ، أتى فأخذ بخطامه وقاده. وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلفنا المدينة ، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو ابن عوف قال : زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق ، وقرت عين أم سلمة بزوجها ، وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده ثم طفقت الأحداث تمضي سراعا كلمح البصر ، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين ، وقد انتصروا نصرا مؤزرا ..
وهذه أحد ، يخوض غمارها بعد بدر ويبلى فيها أحسن البلاء وأكرمه ، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحا بليغا ، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندمل ، لكن الجرح كان قد رم على فساد فما لبث أن انتكأ ولزم أبو سلمة الفراش ..
وفيما كان ابو سلمة يعالج من جرحه قال لزوجه :
يا أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصيب أحدا مصيبة ، فيسترجع عند ذلك ويقول : اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ، اللهم أخلفني خيرا منها إلا أعطاه الله عز وجل خيرا منها ..
ظل أبو سلمة على فراش مرضه أياما ، وفي ذات صباح جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده ، فلم يكد ينتهي من زياره ويجاوز باب داره ، حتى فارق ابو سلمة الحياة ، فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفتين عيني صاحبه ، ورفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المقربين .. واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يارب العالمين ، وافسح له في قبره ونور له قبره .
أما أم سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :
اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه ... لكنها لم تطب نفسها أن تقول : اللهم أخلفني فيها خيرا منها ، لأنها كانت تتساءل ومن عساه أن يكون خيرا من أبي سلمة ؟ لكنها ما لبثت أن أتمت الدعاء ..
حزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب أحد من قبل ، وأطلقوا عليها اسم (أيم العرب) أي المرأة التي فقدت زوجها ، إذ لم يكن لها في المدينة أحد من ذويها غير صبية صغار كزغب القطا.
شعر المهاجرون والأنصار معا بحق أم سلمة عليهم ، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة حتى تقدم منها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبها لنفسه فأبت أن تستجيب لطلبه ، ثم ثقدم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فردته كما ردت صاحبه .
ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن في خلالا ثلاثا : فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني الله به , وأنا امرأة قد دخلت في السن (أي جاوزت سن الزواج) ، وانا امرأة ذات عيال ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل ان يذهبها عنك ، واما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك .. وأما ما ذكرت من العيال ، فإنما عيالك عيالي !!
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة فاستجاب الله دعاءها ، وأخلفها خيرا من أبي سلمة .. ومنذ ذلك اليوم لم تبق هند المخزومية أما لسلمة وحده ، وإنما غدت أما لجميع المؤمنين .. نضر الله وجه أم سلمة في الجنة ورضي عنها وأرضاها.