نسيبة المازنية
مقاتله من عصر النبوة
رضي الله عنها وأرضاها
من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة..؟!
رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا و رأيت أم عُمارة تقاتل دوني
رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيما نحن كذلك أقبل (( ابن قمئة )) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟
دلوني على محمد ...
فاعترضت سبيله أنا و مصعب بن عمير, فصرع مصعباً بسيفه و أرداه قتيلاً ...
ثم ضربني ضربة خلفت على عاتقي جرحاً غائراً ...
فضربته على ذلك ضربات , ولكن عدو الله كانت عليه درعان ...
ثم أتبعت نسيبة المازنية تقول :
وفيما كان ابني يناضل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضربه أحد المشركين ضربة كادت تقطع عضده ...
وجعل الدم يتفجر من جرحه الغائر ...
((أنتم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في آخر الثلث الأول من الليل)).
أسر مصعب بن عمير بهذه الكلمة إلى واحد من مسلمي (( يثرب )), فسرى الخبر بينهم سريان النسيم في سرعة, وخفة, و هدوء.
و أحيط به المسلمون الذين تسللوا من المدينة, و اندسوا بين جموع حجاج المشركين الوافدين على مكة من كل صوب.
و أقبل الليل فاستسلم حجاج المشركين إلى النوم..
وجعلوا يغطون في نومٍ عميق بعد يوم جاهد متعب قضوه في التطواف حول الأوثان ...
و الذبح للأصنام...
لكن أصحاب مصعب بن عمير من مسلمي (( يثرب )) لم يغمض لهم جفن ...
وكيف لجفونهم أن تغمض ؟!
وقلوبهم تخفق بين فرحة باللقاء الذي قطعوا من أجله الفيافي و الفقار و أفئدتهم تكاد تطير من بين ضلوعهم شوقاً لرؤية نبيهم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه .
فقد آمن به أكثرهم قبل أن يسعدوا بلقياه ...
و تعلقوا به قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه ...
و في آخر الهزيع الأول من أوسط أيام التشريق, و عند (( العقبة )) في (( منى ))تم اللقاء الكبير في غفلة من قريش...
فلقد تقدم اثنان و سبعون رجلاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه ...
ووضعوا أيديهم في يديه واحداً بعد آخر مبايعين أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم و أولادهم ...
ولما انتهى الرجال من البيعة تقدمت امرأتان فبايعتا على ما بايع عليه الرجال ...
ولكن من غير مصافحة ...
ذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يصافح النساء .
وقد كانت إحدى هاتين المرأتين تعرف بأم منيع ...
أما الأخرى فهي نسيبة بنت كعب المازنية المكناه بأم عمارة.
عادت أم عمارة إلى (( يثرب )) فَرِحةً بما أكرمها الله به من لقاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .
عاقدة العزم على الوفاء بشروط البيعة ...
ثم مضت الأيام سراعاً, حتى كان يوم (( أحد )) , و كان لأم عمارة فيه شأن و أي شأن ؟!
خرجت أم عمارة إلى (( أحد )) تحمل سقاءها لتروي ظمأ المجاهدين في سبيل الله.
و معها لفائفها لتمضد جراحهم ...
و لا عجب, فقد كان لها في المعركة زوج و ثلاثة أفئدةٍ :
هم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وولداها حبيب, و عبد الله ...
وذلك بالإضافة إلى إخوتها من المسلمين الذائدين عن دين الله المنافحين عن رسول الله .
ثم كان ما كان يوم (( أحد )) ...
فلقد رأت أم عُمَارَةَ بعينيها كيف تحول نصر المسمين إلى هزيمة كبرى ...
وكيف خذ القبل يصتد في صفوف المسلمين فيتساقطون على أرض المعركة شهيداً إثر شهيد ...
و كيف زلزلت الأقدام , فتفرق الرجال إلا عشرة أو نحواً من عشرة ...
مما جعل صارخ الكفار ينادي :
لقد قتل محمدٌ ... لقد قتل محمدٌ ...
عند ذلك ألقت أم عمارة سقاءها , و انبرت إلى المعركة كالنمرة التي قصد أشبالها بِشَرٍّ ...
ولنترك لأم عمارة نفسها الحديث عن هذه اللحظات الحاسمات, فليس كمثلها من يستطيع تصويرها بدقة و صدق .
قالت أم عمارة:
خرجت أول النهار إلى (( أحد )) و معي سقاء أسقي منه المجاهدين حتى انتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) و الدولة والقوة له و لمن معه ...
ثم ما لبث أن انكشف المسلمون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم), فما بقي إلا في نفر قليل ما يزيدون على العَشْرَةِ ...
فملت إليه أنا و ابني وزوجي ...
وأحطنا به إحاطة السوار بالمعصم و جعلنا نذود عنه بسائر ما نملكه من قوة وسلاح ...
ورآني الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ولا ترس معي أقي به نفسي من ضربات المشركين .
ثم أبصر رجلاً يفر هارباً و معه ترس فقال له :
( ألق ترسك إلى من يقاتل ) فألقى الرجل ترسه و مضى ...
فأخذته و جعلت أتترس به عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
وما زلت أضارب عن النبي بالسيف ...
وأرمي دونه بالقوس حتى أعجزتني الجراح .
وفيما نحن كذلك أقبل (( ابن قمئة )) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟
دلوني على محمد ...
فاعترضت سبيله أنا و مصعب بن عمير, فصرع مصعباً بسيفه و أرداه قتيلاً ...
ثم ضربني ضربة خلفت على عاتقي جرحاً غائراً ...
فضربته على ذلك ضربات , ولكن عدو الله كانت عليه درعان ...
ثم أتبعت نسيبة المازنية تقول :
وفيما كان ابني يناضل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضربه أحد المشركين ضربة كادت تقطع عضده ...
وجعل الدم يتفجر من جرحه الغائر ...
فأقبلت عليه, و ضمدت جرحه, و قلت له :
انهض يابني و جالد القوم ...
فالتفت إلي الرسول صلوات الله عليه وسلامه عليه وقال :
( ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة) ؟!
ثم أقبل الرجل الذي ضرب ابني فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
( هذا ضارب ابنك يا أم عمارة )
فما أسرع أن اعترضت سبيله و ضربته على ساقه بالسيف؛ فسقط صريعاً على الأرض ...
فأقبلنا عليه نتعاوره بالسيوف ونطعنه بالرماح حتى أجهزنا عليه, فالتفت إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتسماً و قال :
(لقد اقتصصت منه يا أم عمارة ...
والحمد لله الذي أظفرك به ...
و أراك ثأرك بعينك ).
لم يكن ولدا أم عمارة أقل شجاعة وبذلا من أمهما و أبيهما, و لا أدنى تضحية و فداءً منهما ...
فالولد سِّرُ أمه و أبيه , و صورة صادقة عنهما .
حدث ابنها عبدالله قال :
شهدت (( أحداً )) مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا و أمي نذب عنه , فقال :
( ابن أم عمارة؟ )
قلت: نعم
قال: (ارمِ ...)
فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر فوقع على الأرض , فما زلت أعلوه بالحجارة حتى جعلت عليه منها حِمْلاً , والنبي عليه السلام ينظر إليَّ و يبتسم ...
وحانت منه التفاته فرأى جرح أمي على عاتقها يتصبب منه الدم فقال :
( أمك ... أمك ...
اعصب جرحها . بارك الله فيكم أهل بيت ...
بَمقامُ أمك خير من مقام فلان و فلان ...
رحمكم الله أهل بيت ) .
فالتفتت إليه أمي و قالت :
ادع الله لنا أن نكون رفقائك في الجنة يا رسول الله .
فقال : ( اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة )
فقالت أمي :
ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا .
ثم عادت أم عُمارة من (( أحد )) بجرحها الغائر وهذه الدعوة التي دعا لها بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) .
وعاد النبي عليه الصلاة والسلام من (( أحد )) وهو يقول :
( ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا و رأيت أم عُمارة تقاتل دوني ) .
تمرست أم عمارة يوم أحد على القتال ؛ فأتقنته ...
وذاقت حلاوة الجهاد في سبيل الله ؛ فما عادت تطيق عنه صبراً .
وقد كتب لها أن تشهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه أكثر المشاهد ...
فحضرت معه الحديبية و خيبراً ...
و عمرة القضاء , وحنيناً ...
وبيعة الرضوان
ولكن ذلك كله لايعد شيئاً إذا قيس بما كان منها يوم (( اليمامة )) على عهد الصديق رضي الله عنها وعنه .
تبدأ قصة أمِ عُمارة مع يوم (( اليمامة )) منذ عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
فقد بعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ابنها حبيب بن زيد برسالة إلى مسيلمة الكذاب ...
فغدر مسيلمة بحبيب و قتله قتلة تقشع منها الجلود .
ذلك أن مسيلمة قيد حبيباً ثم قال له :
أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
فقال : نعم .
فقال مسيلمة : أتشهد أني رسول الله ؟
فقال : لا أسمع ما تقول ...
فقطع منه عضواً ...
ثم مازال مسيلمة يعيد عليه السؤال نفسه , فيرد عليه الجواب نفسه ...
لا يزيد عليه ولا ينقص ...
وكان في كل مرة يقطع منه عضواً حتى فاضت روحه الطاهرة , وذلك بعد أن ذاق من العذاب ما تتزلزل منه الصخور الصلاب.
نَعى الناعي حبيب بن زيد إلى أمه نسيبة المازنية فما زادت على أن قالت :
من أجل مثل هذا الموقف أعددته ...
وعند الله احتسبته ...
لقد بايع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلة العقبة صغيراً ...
ووفى له اليوم كبيراً ...
ولئن مكنني الله من مسيلمة لأجعلن بناته يلطمن الخدود عليه ...
لم يبطئ اليوم الذي تمنته نسيبة كثيراً ...
حيث أذن مؤذن أبي بكر في المدينة أن حيَّ على قتال المتنبئ الكذاب مسيلمة ...
فمضى المسلمون يحثون الخطى إلى لقائه , و كان في الجيش أن عمارة المجاهدة الباسلة وولدها عبدالله بن زيد .
ولما التقى الجمعان و حمي وطيس المعركة كان يترصد لمسيلمة نفر من المسلمين و على رأسهم أمّث عُمارة التب تريد أن تنتقم لابنها الشهيد ...
ووحشي بن حرب قاتل حمزة يوم (( أحد )) ...
فقد كان يريد أن يقتل شر الناس وهو مؤمن .
بعد أن قتل أحد خيار الناس وهو مشرك .
لم تستطع أمُّ عُمارة أن تصل إلى مسيلمة بعد أن قُطعت يدها في المعركة ...
وأثخنتها الجراح ...
لكن وحشي بن حرب , و أبا دجانة صاحب سيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصلا إلى مسيلمة وضرباه عن يدٍ واحدةٍ ...
فقد طعنه وحشي بالحربة ...
وضربه أبو دجانة بالسيف ...
فخر صريعاً في طرفة عين .
عادت أم عُمارة بعد (( اليمامة )) إلى المدينة بيدٍ واحده و معها ابنها الوحيد .
أما يدها الأخرى فقد احتسبتها عند الله كما احتسبت من قبل ولدها الشهيد .
ولم لا تحتسبهما ؟!
ألم تقل للرسول عليه الصلاة والسلام :
ادع الله لنا أن نرافقك في الجنة ...
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه :
( اللهم اجعلهم رفاقي في الجنة )
فقالت :
ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا ...
رضي الله عن أم عمارة و أرضاها ؛ فقد كانت طرازاً فريداً بين النساء المؤمنات ...
و أنموذجاً فذاً بين المجاهدات الصابرات ...
والحمد لله رب العالمين
مقاتله من عصر النبوة
رضي الله عنها وأرضاها
من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة..؟!
رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا و رأيت أم عُمارة تقاتل دوني
رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيما نحن كذلك أقبل (( ابن قمئة )) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟
دلوني على محمد ...
فاعترضت سبيله أنا و مصعب بن عمير, فصرع مصعباً بسيفه و أرداه قتيلاً ...
ثم ضربني ضربة خلفت على عاتقي جرحاً غائراً ...
فضربته على ذلك ضربات , ولكن عدو الله كانت عليه درعان ...
ثم أتبعت نسيبة المازنية تقول :
وفيما كان ابني يناضل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضربه أحد المشركين ضربة كادت تقطع عضده ...
وجعل الدم يتفجر من جرحه الغائر ...
((أنتم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في آخر الثلث الأول من الليل)).
أسر مصعب بن عمير بهذه الكلمة إلى واحد من مسلمي (( يثرب )), فسرى الخبر بينهم سريان النسيم في سرعة, وخفة, و هدوء.
و أحيط به المسلمون الذين تسللوا من المدينة, و اندسوا بين جموع حجاج المشركين الوافدين على مكة من كل صوب.
و أقبل الليل فاستسلم حجاج المشركين إلى النوم..
وجعلوا يغطون في نومٍ عميق بعد يوم جاهد متعب قضوه في التطواف حول الأوثان ...
و الذبح للأصنام...
لكن أصحاب مصعب بن عمير من مسلمي (( يثرب )) لم يغمض لهم جفن ...
وكيف لجفونهم أن تغمض ؟!
وقلوبهم تخفق بين فرحة باللقاء الذي قطعوا من أجله الفيافي و الفقار و أفئدتهم تكاد تطير من بين ضلوعهم شوقاً لرؤية نبيهم الحبيب صلوات الله وسلامه عليه .
فقد آمن به أكثرهم قبل أن يسعدوا بلقياه ...
و تعلقوا به قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه ...
و في آخر الهزيع الأول من أوسط أيام التشريق, و عند (( العقبة )) في (( منى ))تم اللقاء الكبير في غفلة من قريش...
فلقد تقدم اثنان و سبعون رجلاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه ...
ووضعوا أيديهم في يديه واحداً بعد آخر مبايعين أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم و أولادهم ...
ولما انتهى الرجال من البيعة تقدمت امرأتان فبايعتا على ما بايع عليه الرجال ...
ولكن من غير مصافحة ...
ذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يصافح النساء .
وقد كانت إحدى هاتين المرأتين تعرف بأم منيع ...
أما الأخرى فهي نسيبة بنت كعب المازنية المكناه بأم عمارة.
عادت أم عمارة إلى (( يثرب )) فَرِحةً بما أكرمها الله به من لقاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .
عاقدة العزم على الوفاء بشروط البيعة ...
ثم مضت الأيام سراعاً, حتى كان يوم (( أحد )) , و كان لأم عمارة فيه شأن و أي شأن ؟!
خرجت أم عمارة إلى (( أحد )) تحمل سقاءها لتروي ظمأ المجاهدين في سبيل الله.
و معها لفائفها لتمضد جراحهم ...
و لا عجب, فقد كان لها في المعركة زوج و ثلاثة أفئدةٍ :
هم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وولداها حبيب, و عبد الله ...
وذلك بالإضافة إلى إخوتها من المسلمين الذائدين عن دين الله المنافحين عن رسول الله .
ثم كان ما كان يوم (( أحد )) ...
فلقد رأت أم عُمَارَةَ بعينيها كيف تحول نصر المسمين إلى هزيمة كبرى ...
وكيف خذ القبل يصتد في صفوف المسلمين فيتساقطون على أرض المعركة شهيداً إثر شهيد ...
و كيف زلزلت الأقدام , فتفرق الرجال إلا عشرة أو نحواً من عشرة ...
مما جعل صارخ الكفار ينادي :
لقد قتل محمدٌ ... لقد قتل محمدٌ ...
عند ذلك ألقت أم عمارة سقاءها , و انبرت إلى المعركة كالنمرة التي قصد أشبالها بِشَرٍّ ...
ولنترك لأم عمارة نفسها الحديث عن هذه اللحظات الحاسمات, فليس كمثلها من يستطيع تصويرها بدقة و صدق .
قالت أم عمارة:
خرجت أول النهار إلى (( أحد )) و معي سقاء أسقي منه المجاهدين حتى انتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) و الدولة والقوة له و لمن معه ...
ثم ما لبث أن انكشف المسلمون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم), فما بقي إلا في نفر قليل ما يزيدون على العَشْرَةِ ...
فملت إليه أنا و ابني وزوجي ...
وأحطنا به إحاطة السوار بالمعصم و جعلنا نذود عنه بسائر ما نملكه من قوة وسلاح ...
ورآني الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ولا ترس معي أقي به نفسي من ضربات المشركين .
ثم أبصر رجلاً يفر هارباً و معه ترس فقال له :
( ألق ترسك إلى من يقاتل ) فألقى الرجل ترسه و مضى ...
فأخذته و جعلت أتترس به عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
وما زلت أضارب عن النبي بالسيف ...
وأرمي دونه بالقوس حتى أعجزتني الجراح .
وفيما نحن كذلك أقبل (( ابن قمئة )) كالجمل الهائج وهو يصيح :
أين محمد ؟
دلوني على محمد ...
فاعترضت سبيله أنا و مصعب بن عمير, فصرع مصعباً بسيفه و أرداه قتيلاً ...
ثم ضربني ضربة خلفت على عاتقي جرحاً غائراً ...
فضربته على ذلك ضربات , ولكن عدو الله كانت عليه درعان ...
ثم أتبعت نسيبة المازنية تقول :
وفيما كان ابني يناضل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضربه أحد المشركين ضربة كادت تقطع عضده ...
وجعل الدم يتفجر من جرحه الغائر ...
فأقبلت عليه, و ضمدت جرحه, و قلت له :
انهض يابني و جالد القوم ...
فالتفت إلي الرسول صلوات الله عليه وسلامه عليه وقال :
( ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة) ؟!
ثم أقبل الرجل الذي ضرب ابني فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
( هذا ضارب ابنك يا أم عمارة )
فما أسرع أن اعترضت سبيله و ضربته على ساقه بالسيف؛ فسقط صريعاً على الأرض ...
فأقبلنا عليه نتعاوره بالسيوف ونطعنه بالرماح حتى أجهزنا عليه, فالتفت إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتسماً و قال :
(لقد اقتصصت منه يا أم عمارة ...
والحمد لله الذي أظفرك به ...
و أراك ثأرك بعينك ).
لم يكن ولدا أم عمارة أقل شجاعة وبذلا من أمهما و أبيهما, و لا أدنى تضحية و فداءً منهما ...
فالولد سِّرُ أمه و أبيه , و صورة صادقة عنهما .
حدث ابنها عبدالله قال :
شهدت (( أحداً )) مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا و أمي نذب عنه , فقال :
( ابن أم عمارة؟ )
قلت: نعم
قال: (ارمِ ...)
فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر فوقع على الأرض , فما زلت أعلوه بالحجارة حتى جعلت عليه منها حِمْلاً , والنبي عليه السلام ينظر إليَّ و يبتسم ...
وحانت منه التفاته فرأى جرح أمي على عاتقها يتصبب منه الدم فقال :
( أمك ... أمك ...
اعصب جرحها . بارك الله فيكم أهل بيت ...
بَمقامُ أمك خير من مقام فلان و فلان ...
رحمكم الله أهل بيت ) .
فالتفتت إليه أمي و قالت :
ادع الله لنا أن نكون رفقائك في الجنة يا رسول الله .
فقال : ( اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة )
فقالت أمي :
ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا .
ثم عادت أم عُمارة من (( أحد )) بجرحها الغائر وهذه الدعوة التي دعا لها بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) .
وعاد النبي عليه الصلاة والسلام من (( أحد )) وهو يقول :
( ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا و رأيت أم عُمارة تقاتل دوني ) .
تمرست أم عمارة يوم أحد على القتال ؛ فأتقنته ...
وذاقت حلاوة الجهاد في سبيل الله ؛ فما عادت تطيق عنه صبراً .
وقد كتب لها أن تشهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه أكثر المشاهد ...
فحضرت معه الحديبية و خيبراً ...
و عمرة القضاء , وحنيناً ...
وبيعة الرضوان
ولكن ذلك كله لايعد شيئاً إذا قيس بما كان منها يوم (( اليمامة )) على عهد الصديق رضي الله عنها وعنه .
تبدأ قصة أمِ عُمارة مع يوم (( اليمامة )) منذ عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
فقد بعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ابنها حبيب بن زيد برسالة إلى مسيلمة الكذاب ...
فغدر مسيلمة بحبيب و قتله قتلة تقشع منها الجلود .
ذلك أن مسيلمة قيد حبيباً ثم قال له :
أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
فقال : نعم .
فقال مسيلمة : أتشهد أني رسول الله ؟
فقال : لا أسمع ما تقول ...
فقطع منه عضواً ...
ثم مازال مسيلمة يعيد عليه السؤال نفسه , فيرد عليه الجواب نفسه ...
لا يزيد عليه ولا ينقص ...
وكان في كل مرة يقطع منه عضواً حتى فاضت روحه الطاهرة , وذلك بعد أن ذاق من العذاب ما تتزلزل منه الصخور الصلاب.
نَعى الناعي حبيب بن زيد إلى أمه نسيبة المازنية فما زادت على أن قالت :
من أجل مثل هذا الموقف أعددته ...
وعند الله احتسبته ...
لقد بايع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلة العقبة صغيراً ...
ووفى له اليوم كبيراً ...
ولئن مكنني الله من مسيلمة لأجعلن بناته يلطمن الخدود عليه ...
لم يبطئ اليوم الذي تمنته نسيبة كثيراً ...
حيث أذن مؤذن أبي بكر في المدينة أن حيَّ على قتال المتنبئ الكذاب مسيلمة ...
فمضى المسلمون يحثون الخطى إلى لقائه , و كان في الجيش أن عمارة المجاهدة الباسلة وولدها عبدالله بن زيد .
ولما التقى الجمعان و حمي وطيس المعركة كان يترصد لمسيلمة نفر من المسلمين و على رأسهم أمّث عُمارة التب تريد أن تنتقم لابنها الشهيد ...
ووحشي بن حرب قاتل حمزة يوم (( أحد )) ...
فقد كان يريد أن يقتل شر الناس وهو مؤمن .
بعد أن قتل أحد خيار الناس وهو مشرك .
لم تستطع أمُّ عُمارة أن تصل إلى مسيلمة بعد أن قُطعت يدها في المعركة ...
وأثخنتها الجراح ...
لكن وحشي بن حرب , و أبا دجانة صاحب سيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصلا إلى مسيلمة وضرباه عن يدٍ واحدةٍ ...
فقد طعنه وحشي بالحربة ...
وضربه أبو دجانة بالسيف ...
فخر صريعاً في طرفة عين .
عادت أم عُمارة بعد (( اليمامة )) إلى المدينة بيدٍ واحده و معها ابنها الوحيد .
أما يدها الأخرى فقد احتسبتها عند الله كما احتسبت من قبل ولدها الشهيد .
ولم لا تحتسبهما ؟!
ألم تقل للرسول عليه الصلاة والسلام :
ادع الله لنا أن نرافقك في الجنة ...
فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه :
( اللهم اجعلهم رفاقي في الجنة )
فقالت :
ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا ...
رضي الله عن أم عمارة و أرضاها ؛ فقد كانت طرازاً فريداً بين النساء المؤمنات ...
و أنموذجاً فذاً بين المجاهدات الصابرات ...
والحمد لله رب العالمين